أجمل الأمهات «أم عزيز» ما زالت تنتظر أربعةً لم يعودوا

أجمل الأمهات «أم عزيز» ما زالت تنتظر أربعةً لم يعودوا


تقرير - فلسطين نيوز - «إذا فقدتَ الدفتر الذي بين يديك، فإن الحيرة والقلق سيغلبانك، فكيف وقد فقدتُ أربعة أبناء لا أعرف مصيرهم منذ ستة وعشرين عاماً؟». هكذا وصفت أم عزيز ديراوي حالها خلال حديثها عن أبنائها الذين اختُطفوا في أثناء مذابح صبرا وشاتيلا في أيلول/سبتمبر 1982: عزيز (1950) وإبراهيم (1953) ومنصور (1956) وأحمد (1969).
تدخل بيت أم عزيز في مخيم برج البراجنة في بيروت فتلحظ غرفاً كثيرة تتجاوز العشر، لكن المرأة التي لامست الثمانين تعيش في غرفة واحدة مظلمة في معظم الأوقات، على سرير يضم صور أبنائها الأربعة، وخزانة تحوي قليلاً من ملابسها، والكثير من ملابسهم. ماذا عن بقية الغرف؟ تجيب أم عزيز: «لقد تركتها لهم عندما يعودون، ليجدوها مرتبة كما تركوها.. أكتفي بتنظيفها كل مدة، وأقسمت ألا يدخلها أحدٌ غيرهم، لكن عدوان تموز 2006 تسبّب بحنثي للقسم، إذ أسكنت بها بعض عائلات الجنوب المهجرة». سكان المخيم يلقبونها بـ «أم الشهداء»، وهي تقول: «يا ريت، على الأقل، كنت عرفت مصيرهم، وزرتهم في قبورهم، وطلبت الرحمة لهم، وتصوّرت آخر لحظاتهم بعيداً عن الكوابيس».

عليك أن تكون حذراً حين تحاور أم عزيز، فلديها من الكلام والتفاصيل ما يُدمي السائل، وأقل سؤال يعمّق الجرح البادي في كلامها وتجاعيد وجهٍ انتظر طويلاً عودة من لا تسكن تعابيره بدونهم، ولعلّك تخشى من أن يكون في بعض السؤال إثم لما يحدثه من أثر مؤلم لديها، فتحاول مراراً أن تبتعد عن حديث جئت لأجله، أو على الأقل أن توقف تدفق العاطفة نحو مداها.

تنتقل أم عزيز من الحديث عن بلدتها عمقا/قضاء عكا وكيف تهجّرت منها إلى الحديث عن مأساة أبنائها واختطافهم، في ربط شبه مباشر بين المأساتين، أو باعتبار الثانية نتيجة تلقائية للأولى. خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، رحلت أم عزيز وأبناؤها الأربعة وزوجة ابنها الأكبر عزيز من مخيم برج البراجنة إلى مبنى قريب من مخيمي صبرا وشاتيلا. أُصيب بيتها في المخيم ببعض الضرر فلم تستطع العودة إليه. تدخُل القوات الإسرائيلية إلى بيروت باتفاق دولي على عدم المسّ بالمدنيين الفلسطينيين. وفي يوم 16/9/1982 دخلت مجموعات من القوات اللبنانية وقوات سعد حداد التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مخيمي صبرا وشاتيلا ومحيطهما بدعم إسرائيلي مباشر، كما ثبت.

في 17/9/1982 بدأت مأساة أم عزيز، يوم جمعة، في السابعة والنصف صباحاً جهّزت الطعام لأبنائها الأربعة، ثم ذهبت لتشتري بعض الخضار. رأت في مبنى قريب رجلاً ذا شاربين كثيفين ومعه مجموعات عسكرية كبيرة، لم تكترث للأمر، قبل أن تعرف في ما بعد أن هذا الرجل لم يكن سوى «كبير القتلة إيلي حبيقة». تتابع طريقها إلى سوق الخضار. عند الثامنة تدخل قوة من المهاجمين إلى بيت أم عزيز، تخطف أبناءها الأربعة، ومن بينهم ابنها أحمد، ذو الثلاثة عشر ربيعاً. زوجة عزيز تختبئ لتحفظ نفسها وابنها. تعود أم عزيز إلى المنزل فتخبرها زوجة عزيز بما حدث.. تركض الأمّ باتجاه شاحنات فيها العشرات من الشباب. يناديها عزيز «يما، أنا هون!». تقترب أكثر، فيرفسها أحدهم، ثم يوجّه اللكمات إلى عزيز، حتى يسيل الدم من وجهه. وكانت قد حملت إليه قميصاً لتعطيه إياه، ظناً منها أن القميص سيحميه من برد أيلول قبل العودة إلى منزله. منعوها من ذلك!

غادرت الشاحنات، وعادت أم عزيز إلى المنزل، وكلها أمل بأن أبناءها سيعودون بعد تحقيق قصير. في اليوم الثاني بدأ الحديث يسري عن مجزرة واسعة في مخيمي صبرا وشاتيلا ومحيطهما. ركضت أم عزيز حافية باتجاه المخيمين، وفي ذلك تقول: «كنت من أوائل الواصلين. دخلت المخيمين بيتاً بيتاً أبحث في وجوه الجثث، لعلّي أجد فيها صورة أبنائي، أو صورة واحد على الأقل. حفظت بعض الوجوه لكثرة ما قلّبت في جثثها. ذهبت إلى المدينة الرياضية القريبة من مخيم شاتيلا، وجدت حوالى عشرين شاباً من جثث الشباب مطعونة بآلات حادة، فنظرت إليها جميعاً دون جدوى. عدت إلى المقبرة وأثناء الدفن رجعت أقلّب الجثث».

تتوقف عن الكلام لتمسح دمعة على خديها، وتستوقف دمعة في عيني سائلها. ثم تتابع بصوت تَحشْرجَ: «رحت أسأل الغادي والرائح عنهم، لم أسمع بسجين سابق إلا ذهبت إليه أسأله عنهم، لعلّ معه خبراً أو أملاً، فأعود خائبة. ذهبتُ إلى رجل أعمال مسيحي اسمه أديب خوري، وكان عزيز يعمل معه، ولمّا سمع قصة ابني أُصيب بذبحة قلبية ومات. عشرات الحكايات سمعتها، وتأكدت منها، من أنهم أخذوهم إلى المطار أولاً، ثم إلى سجن اليرزة شرق بيروت، وصل وزني في تلك الأثناء إلى 41 كيلوغراماً، وخصوصاً بعد استشهاد زوجي بقذيفة خلال حرب المخيمات».

تشير أم عزيز إلى أن «أكثر الأخبار التي كنت على يقين منها هي قصة رواها لي أحد السجناء السابقين في سجن اليرزة، وهو عماد القفّاص، وكان يعرف ابني عزيز قبل الاعتقال. لقد وصفه بكامل ملابسه وألوانها كما كانت يوم اعتقاله. حتى ذكر لي أن سروال عزيز عليه بعض الطلاء الأحمر، وهذا ما أنا متأكدة منه. وكان يقول عزيز حسب القفاص: «أمنيتي أن أرى أمي، فمشهدها وهي تتعرّض للضرب لم أنسه أبداً». أما الأبناء الآخرون فلم يشاهدهم أحد منذ اعتقالهم».

تحكي أم عزيز عن عشرات قصص الاحتيال التي تعرّضت لها وهي تبحث عن أبنائها، فتقول: «كنت أعلم في كثير من الأحيان أن الذي يعدني بعودة أبنائي محتال، ولكني كنت أبحث عن أمل، أي أمل، ولا يمكنني أن أُهمل أية قصة أو رواية يمكنها أن تكون مفتاحاً لعودة أبنائي. وفي كثير من الأحيان كدت أُقتل، كما يوم ذهبت إلى قرية القليعة اللبنانية الحدودية وأراد ضابط من جيش لحد قتلي. دفعت صيغتي وأملاكي المتواضعة لمن كان يزعم أنه سيرشدني إلى أبنائي. واليوم لا أنام في الليل الطويل أكثر من ساعتين ونصف، وأنا أنتظرهم.. كل دعسة أسمعها أقارنها بدعساتهم التي ما زلت أحفظها.. آه شو طوّلوا!».

مابنقدر نقول غير الله يعينها

ويفرحها برجعة اولادها يارب

مشكور شادي

اشكرك جمانه على المرور الطيب الذى اسعدنى